الزيارات:
'القمر البعيد من حريتي': قلب القصيدة .. وطن الشاعر

مرسلة بواسطة Unknown يوم 0 التعليقات




(في أحد اتصالاته الهاتفية ذكر لي الشاعر الكردي لقمان محمود، بأن أحد النقاد سأله في دهشة واستهجان فيما إذا كان له وطن ليكتب عنه بدل الكتابة عن زوجته دلشا باعتبارها هذا الوطن.
ولما شعر لقمان على حدّ وصفه بأن ذلك الناقد إما أنه لم يفهمه، أو أنه فهمه ولكنه يأبى الاعتراف بمكانة شريكة العمر في حياة الشاعر، أي شاعر، وليس لقمان وحده، صرخ فقال: نعم دلشا وطني. وكان يعني بالطبع زوجته، التي هي قلب العديد من القصائد التي كتبها، أو بؤرتها في تعبير نقدي آخر، والتي هي وطن الشاعر أيضا، إذا ما حرصنا على تفادي الصرخة، وعدم الوقوع في تهمة عدم فهم هذا الشاعر الذي صارت امرأته وطنا له في قصائده، وحتى في حياته كما يصرح بهذا علانية كلما سنحت الفرصة لذلك).
وعندما وصلني ديوانه الأخير 'القمر البعيد من حريتي'(*) أسرعت أبحث بين صفحات الديوان عن مقاربة إلى ما سبقت الاشارة إليه من دهشة الناقد وردّ لقمان عليه، فكان أن استوقفتني المنحوتة في لغته الشعرية التي يشير فيها إلى 'دلشاستان' التي ستعني قطعا: أرض دلشا، على وفق قاعدة النظر إليها كما ننظر إلى منحوتات لغوية مشابهة ومقايستها بها كمثل: عربستان ـ أرض العرب، كردستان ـ أرض الكرد، تركستان ـ أرض الترك، أوزبكستان أرض الأوزبك، وهكذا إلى غير هذه المنحوتات مما نعرف. وكانت هذه واحدة من إشارات هامة يمكن الاستدلال منها إلى وطن الشاعر أيضا، على الرغم من أن عملية تجريد المنحوتة والنظر إليها كمصطلح كما هي عليه بدون تفسيرها من خلال السياق اللغوي الذي تقع فيه يحملنا إلى وطن المرأة الزوجة الحبيبة، وليس إلى سواه من الأوطان. ومن هنا نتبين الحصرية في ذهاب الشاعر لقمان إلى وطن بعينه، فيصبح من المفيد البحث عن نوع العلاقة التي تربطه بدلشا، لنتبين من خلال ذلك طبيعة الوطن الذي يكتب عنه، ويصوره في المآسي والأحزان، وهل هو وطن آخر سوى الوطن الذي تتبلور فيه عذابات الكرد وأحزانهم، وكمثل ما تتبلور أمام أعيننا كقراء عذابات لقمان وأحزانه ككردي في هذه المرة، وليس كشاعر بلا هوية كما كما توهم ذلك. إنه سؤالنا الجوهري الذي يحتم علينا إذا ما توخينا الدقة في الحكم النقدي، الذهاب إلى مركز الثقل الدلالي الذي علينا البحث عنه وفيه داخل القصائد، حتى وإن وقع هذا البحث في حدود قصائد بعينها، وليس في قصائد الديوان جميعها، التي لا بدّ أن نخضعها في النهاية إلى المنطق النقدي الذي يحتم وضعها في سياقها الفكري الذي تنتظم فيه قصائد الديوان جميعها وليس قصيدة بمفردها، وهو السياق الذي لا يتخفى فيه الشاعر فلا يجاهر بهويته، دون أن يغيب عن أذهاننا أنه ثمة ديوان سبق صدوره، يحمل عنوان 'دلشاستان'. وإلى ما نذهب إليه يقول :
الحجل
ألم كردي متنقل
في القفص الصدري
لعظام كردستان (ص39)
وإذا ما وضعنا هذه الصورة الشعرية جانبا، وهي في اعتقادنا واحدة من بين الأجمل مما يمكن أن نقرأ من الصور الشعرية ونتخيلها لاحقا، فإنه يصحّ لنا اعتبار الألم الكردي البؤرة التي ستجتمع عندها مختلف المعاني في هذه القصيدة وفي سواها من قصائد الديوان. ونحن لا نقول هذا على أساس افتراض عدم وجود مقياس لضبط بؤرة هذه القصيدة أو تلك، وأنه من حق القارئ أيا كان تحديد البؤرة كما يراها هو وليس كما يراها غيره من القراء أو النقاد، وإنما لأن هذا الألم سوف نشعر به ويخزنا هنا وهناك خلال قراءتنا. يقول في قصيدة 'الجحيم':
جنود أبديون
يرصدون أرواحا زرقاء
في الهواء الكردي
كي يضيفوا
مقابر أخرى للذاكرة (ص105)
لسنا هنا في مجال القيام بدراسة سيميائية نتقصى فيها مختلف العلامات والاشارات وغيرها مما يرتبط بالبنية وكيفية الاستدلال إلى ما في القصائد من المتن الفكري، وحسبنا النظر إلى ما يفيد في بلورة نظرة صائبة إلى وطن الشاعر كما تقدمه القصائد تلميحا أو تصريحا. وهنا نسأل دون أن تغيب عن أذهاننا مسألة تكرار مفردة دلشا: إلى أين يحملنا الثقل الدلالي الذي يترتب على هذا التكرار الذي لم يأت من قبيل اللهو؟ إننا على هذا النحو من التفكير، بصدد القيام بقراءة غايتها بالاضافة إلى ما سبق ذكره، الكشف عما في نصوص لقمان من الطاقة التي بسببها تتم عمليات صنع المعاني التي يمكن الوصل إليه بعد القراءة الحرة غير المؤمنة بالمعنى الثابت الذي ربما يخفي وراءه غيره من المعاني. يقول في قصيدة 'وطني دلشا ستان':
دلشا، كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك
لأستنشق الحبّ من أعماقه
كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك
لتنام فيّ المنافي والآلام والأحزان
كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك
لترفرف أعلام فرحي في وطني دلشاستان (73)

ويقول في قصيدة 'في مهبّ دلشا':
لم تتوقع دلشا أنني حيّ وميّت
وأن حياتي تراب
تسيل من جبل إلى جبل
ومن قبر إلى قبر
ولم تعرف أننا تعانقنا كجرح
يعانق جرحا
في مهبّ النزيف (ص102)

في هذين المقطعين وهما مما نتبين فيهما ماهية وكيفية تحرك الثقل الدلالي الذي نقصده، يمكننا تحديد ثلاث رؤوس لمثلث العلاقة بين الشاعر ودلشا والآلام. فالشاعر الذي هو إنسان في معزل عن أي توصيف آخر (باب غرفتي / ما زال بانتظاري / الجدار ما زال يتأمل في الجدار الممقابل / فقط السقف على غير عادته / منهك في امتصاص العتمة) (ص36)، هو أيضا نفسه رجل دلشا وحبيبها (ساعديني دلشا / كي أتحرر منك ومني / ومن أشواقي المحاربة / لا تقولي انتهت الحرب / فحياتي جيش / ما زالت تناديك بالقائدة)(ص5). وأما دلشا رأس المثلث الآخر التي يتم تجسيدها أحيانا باعتبارها أنثى

(أتركيني كي أرى شؤون قلبي / فقد مات فيّ الولد / كم مرة ألبستني جلد التعب / كي يتباهى عريك / كم مرة دخلت في مساماتي / كي تقيمي حفلة للشبق / صدقيني سيدتي مات فيّ الولد )(ص56-57)، فإنها سوى هذا المكان الهادئ الذي يبعث في النفس نفس الشاعر الاطمئنان والاحساس بالراحة حين قدومه إليها بهدف التخلص من المرارات والأحزان التي ينيخ تحتها (باق لأمسك الأرض / من أطراف خطواتك / فإن لم أفلح / ففي إثرك سينكشف طريقي / أنا الحيّ /عايشت جميع الأموات / ولم يبق قبر إلا وجثتي فيه (ص113).
إن ما يجمع الشاعر ودلشا ليس هو الحب وحده، وإنما العذابات هي الأخرى تجمعهما وتجعلهما يتماهيان في بعضهما (جاءت جثتك إلى جثتي / وقالت لم أمت بالطلقات / متّ بالحب / توهمت أن أميرتي عادت / نعم عادت / وتوجهت بجراحها من جديد / لتتزوج الدماء )(ص18). ولسوف نكتشف بأن هذه العذابات وإن كان فيها بعدها الانساني الذي يتجاوز حدود جسدين يلتحمان ببعضهما، فإنها مما يواجهها الكرد، قوم الشاعر الذي يوحّد حبيبته الكردية هي الأخرى بأرض كردستان (دلشا لم أحمل السلاح أبدا / لكن آثاره دائما على جسدي وعلى ظهري / لم تلامس قدماي / ثلوج كردستان أبدا / لكن ساقي دائما تبتر / من أنا / صرت لا أعرف الحقيقة من الوهم)(ص67).
هكذا فإن مثلث العلاقة يحملنا إلى وطن هو نفسه كردستان بجغرافيتها المعروفة التي اعتقد الناقد في جهالة واضحة بأنها لا وجود لها في قصائد لقمان محمود. وأما مفردتا دلشا ودلشاستان اللتان يقع عليهما فعل التكرار، فإنهما البوابتان إلى الوطن يعبر منهما شاعر تتضح في أعماقه تجربته، ويقف على أجزائها بفكره، ويرتبها ترتيبا جماليا وبنائيا كما لو انها معمار يقيمه ذهنه قبل فعل الكتابة الشعرية ( إلهي / منفاي يقصّ كل يوم من عمري / عاما كاملا / لذلك تراني أتوكأ على موتي / لأحرّض حياتي على النهوض)(ص47) و( يزرع الكردي / القمح، الشعير، العدس / القطن والخضار/ تزرع الدول الخائفة / نقاط تفتيش، حواجز / أسلاك شائكة / وألغام حاقدة / في الأخير، وفي كل المواسم / لا ينمو في أرض كردستان / سوى الثورات / والموتى) (ص104).
إنها صورة فيها الكثير من الإيحاء تلك التي يرسم فيها الشاعر لقاءه الأول بدلشا. أليست الكلمات في الشعر مما يقصد الشاعر باستخدامها بعث صور إيحائية ( جاءت جثتك إلى جثتي / وقالت لم آمت بالطلقات / متّ بالحب / توهمت أن أميرتي عادت / نعم عادت / وتوجهت بجراحها من جديد / لتتزوج الدماء)(ص18). وإذا كان أمر الكلمات على هذا النحو وهذا شأنها في العملية الابداعية، ألا توصلنا عملية استجواب النصوص والغوص في أعماقها المستترة تحت قشرة الظاهر منها إلى رؤية كيفية قيام الشاعر لقمان محمود بوضع تفاعلاته الداخلية والخارجية جمميعها معا في قلب الواقع الكردي وليس في داخل حدود جسد دلشا المرأة التي لاقى جسدها من الأعداء ما نال جسد الشاعر وأجساد الكرد كذلك (جنود أبديون / يرصدون أرواحا زرقاء / في الهواء الكردي / كي يضيفوا / مقابر أخرى للذاكرة)(ص105 ) و(عشرون رجلا طاردوا غزالة من 'نصيبين' إلى 'عامودا'. وعندما استصعبوا الامساك بها استراحوا على مقربة من النهر الجاري، وحينها اقتربت الغزالة بدلال، فاستسهلوها وانكبوا على دموع أعيقت سلخها، وبينما هم في حيرتهم، ظهر خنزير أمام اعماقهم، فهبّ عشرة منهم، فلم يعودوا، فهبّ خمسة ولم يعودوا، فهبّ أربعة فلم يعودوا، وقبل أن يهبّ الأخير، سال دمع كثير / بدل الدم) (ص77-78).
ما سبق يبين لنا هوية كل من الشاعر والقصيدة كليهما معا. وهنا نلاحظ بلا تعب العرى القوية بين الاثنتين وعدم الانفصال، فالهوية هي ذاتها، ويضعنا أمامها مناخ أيديولوجي للنص الشعري ولصاحبه. يقول الناقد ترنس هوكز : إننا نعيش في عالم الاشارات الذي يدفعنا إلى البحث عن جميع المعلومات المتراكمة في النص.
ونتبين هذا المناخ الذي هو كردي من مفردات وصياغات يعتبر صرف النظر عنها هروبا من الحقيقة، تلك التي غيبتها النظرة غير الموضوعية والسريعة، ومن هذا على سبيل المثال لا الحص (الحجل / ألم كردي متنقل / في القفص الصدري / لعظام كردستان) و(في كردستان / ما زال القمر / يحتفظ بأسرار العشاق / والشمس / ما زالت تنشرها) و(يأتي الظلام / من الأسلاك الشائكة / فكل معلوماتي عن الحدود / أنها تراقب الآلام المتبادلة / بين الأكراد ) و ( إنه جحيم ناقم / فاستندي يا كردستان / على الجراح الواقفة / كي تستريح سماؤك / من دماء / تدعى النجوم ) و (كان 'مم' يسقي الورود في النهار، وفي الليل، كان يسقي مخدته بالدموع. مرت السنون، وصار بإمكانه أن يكلم جميع الورود بيديه، وأن يرى جمال 'زين' بعماه، انتشر خبر عماه، وسمعت بذلك 'زين' فذهبت لحظاها لتخبره أنها تحبه أيضا، فماتا في أول صراحة).
ما نراه في نهاية هذه المقالة، أن طريقة التعامل مع النص الشعري هي ما ستمكن الناقد من الوصول إلى الرأي النقدي الصحيح. فإذا ما كانت العجلة ورؤية الظاهر هما ما يتصف بهما الناقد، فإن الوصل إلى رأي صحيح يبدو ضربا من المستحيل. ثمة طبقات في نسيج اللغة الشعرية، بعضها قد يكون عصيا ولا يمكن الوصول إليه بيسر، بل وإن هذا ما يجب أن يضعه الناقد في الحسبان، على اعتبار أن النصّ الشعري لا يكون نصا ناجحا وذا جاذبية، إذا لم يكن عصيا على النظرة الاولى، على غرار تلك التي استخدمها الناقد المشار إليه في السطور الاولى، والذي بسببها اعتقد بأن لقمان يلهج بحب امرأته في منأى عن حبه لوطنه كردستان، وهذه في اعتقادنا واحدة من المزايا الهامة والأساسية، التي ترتقي بها قصائده التي تشترط لفهمها، التحرر من الفهم التقليدي للغة، والبحث عن الميتافيزيقيا العالقة بها، وإلا فإننا نكون كمثل من يقع على وجهه، وهو لا يبصر تماما الطريق التي يسلكها، وعلى غرار ما سبقت الاشارة إليها من نظرة الناقد الذي لم يعرف كيفية استجواب النصوص، والغور في لعبة المعنى الذي لم يكتشف منه سوى عتبته ربما.

(*) لقمان محمود، 'القمر البعيد من حريتي'، دار سردم للطباعة والنشر، سليمانية2012 .


http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\04qpt896.htm&arc=data\2013\03\03-04\04qpt896.htm
تعليقات
0 تعليقات